تداعيات غزة على الانتخابات المحلية التركية- حسابات الربح والخسارة

المؤلف: د. سعيد الحاج11.14.2025
تداعيات غزة على الانتخابات المحلية التركية- حسابات الربح والخسارة

مع دنو موعد الانتخابات البلدية في تركيا، المقررة في الحادي والثلاثين من شهر مارس/آذار الحالي، تتجلى بوضوح الآثار المباشرة وغير المباشرة للحرب الدائرة في غزة، وتحديدًا الموقف الرسمي التركي حيالها، على مسار الحملات الانتخابية، وعلى النتائج المرتقبة لهذه الانتخابات.

الانتخابات المحلية

تتميز الانتخابات المحلية في تركيا عن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية بتركيزها الأقل على القضايا السياسية المعقدة، ما يجعل تأثير الملفات السياسية، وعلى وجه الخصوص السياسة الخارجية والقضايا الإقليمية والدولية، محدودًا للغاية، وغالبًا غير مؤثر في نتائجها.

يعود ذلك إلى طبيعة هذه الانتخابات الخدمية، وتأثيرها المحدود على التوازنات السياسية والحزبية في البلاد، مما يجعل الخصائص الشخصية، والانتماءات الجهوية والمناطقية، وحتى الروابط العشائرية، عوامل حاسمة في تحديد توجهات الناخبين. ومع ذلك، لا يمكن تجاهل أهمية السياسات الداخلية والانتماءات الحزبية والأيديولوجيات المختلفة.

لذا، ليس من المستغرب أن يدلي بعض أنصار حزب ما بأصواتهم لصالح مرشح من حزب منافس خلال الانتخابات المحلية، إذا رأوا فيه الشخص الأنسب لتقديم خدمات أفضل لمدينتهم أو منطقتهم، أو إذا كانوا غير راضين عن المرشح الذي اختاره حزبهم، أو رغبوا في التعبير عن احتجاجهم تجاه حزبهم، أو لأي سبب آخر يرونه مناسبًا.

لقد انتقدت أحزاب المعارضة بشدة رفض البرلمان إجراء تحقيق دقيق حول حجم التبادل التجاري مع دولة الاحتلال وتأثيره على الوضع في غزة، وذلك بأصوات حزب العدالة والتنمية الحاكم وحليفه حزب الحركة القومية، بالإضافة إلى رفض قطع العلاقات الدبلوماسية معها.

يُعرف الناخب التركي بوعيه السياسي وقدرته على التمييز بين الانتخابات المختلفة، بل وفي الاستحقاق الانتخابي الواحد. فقد يصوت لمرشح حزبه في انتخابات المدينة الكبرى، بينما يختار مرشحًا من حزب منافس في المجلس البلدي أو في بلدية الحي الذي يسكنه.

وقد شهدنا أمثلة على ذلك في الانتخابات المحلية الأخيرة التي جرت عام 2019، عندما فاز مرشحا حزب الشعب الجمهوري المعارض بمنصبي رئيسي بلديتي أنقرة وإسطنبول، بينما تفوق حزب العدالة والتنمية الحاكم على حزب الشعب الجمهوري في انتخابات المجلس البلدي للمدينتين.

لكن يبدو أن الانتخابات المقبلة تحمل استثناءً لافتًا، حيث فرضت الحرب في غزة نفسها بقوة على المشهد الانتخابي المحلي منذ وقت مبكر، ومن المتوقع أن يزداد هذا الحضور مع اقتراب موعد الانتخابات.

تتضاعف أهمية هذه الملاحظة عندما نأخذ في الاعتبار أن الانتخابات القادمة كان من المفترض أن تجري في ظل تحسن ملحوظ في العلاقات بين تركيا ودولة الاحتلال خلال العامين الأخيرين، الأمر الذي كان سيقلل من تأثير تطورات القضية الفلسطينية، إن وجد، على مسار الانتخابات، لولا اندلاع الحرب في غزة.

وقد يكون هذا التأثير جليًا بشكل خاص في انتخابات بلدية إسطنبول الكبرى، التي تعتبر الأهم والأكبر في البلاد، والتي يوليها حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان اهتمامًا بالغًا، كما سنوضح لاحقًا.

ويتجلى هذا الاهتمام الاستثنائي في تقديم مرشح قوي، هو الوزير السابق مراد كوروم، لمنافسة رئيس البلدية الحالي ومرشح حزب الشعب الجمهوري، أكرم إمام أوغلو، بالإضافة إلى مرشحي أحد عشر حزبًا سياسيًا آخر وعدد من المرشحين المستقلين.

الحرب على غزة

بدا الموقف الرسمي التركي في بداية عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي مترددًا إلى حد ما، ومختلفًا عن المواقف التقليدية التي كانت تتخذها تركيا خلال المواجهات السابقة بين المقاومة الفلسطينية وقوات الاحتلال.

وتجلت مظاهر هذا التردد في رفض "استهداف المدنيين"، والتركيز على قضية "الرهائن" لدى المقاومة، وعرض الوساطة بين الطرفين، وتبني لهجة أقرب إلى الحياد.

إلا أن هذا الموقف تطور بعد بضعة أسابيع، ليتبلور في الموقف الرسمي الحالي الذي يدين بشدة الاعتداءات "الإسرائيلية"، ويصف دولة الاحتلال بالإرهاب بعد أن نفى هذه الصفة عن حركة حماس، ويعلن عن إغلاق صفحة التواصل مع نتنياهو ويتوعده بالمحاكمة.

من الواضح أن قرب الانتخابات المحلية كان أحد الأسباب التي دفعت إلى هذا التطور في الموقف، وإن لم يكن السبب الأهم. فقد أدى الموقف الرسمي من الحرب إلى ضغوط من أحزاب المعارضة على الحكومة والحزب الحاكم، وخاصة من الأحزاب المحافظة الصغيرة، وعلى رأسها حزبا السعادة والمستقبل الممثلين في البرلمان، اللذين تصدرا مشهد الاحتجاجات والتظاهرات المنددة بالعدوان على غزة، وانتقاد الموقف الحكومي في البرلمان ووسائل الإعلام.

ومن بين أبرز الانتقادات التي وجهتها أحزاب المعارضة للحكومة، رفض البرلمان الموافقة على إجراء تحقيق شامل حول حجم التبادل التجاري مع دولة الاحتلال وتأثيره على الوضع الإنساني في غزة، وذلك بأصوات حزب العدالة والتنمية الحاكم وحليفه حزب الحركة القومية، بالإضافة إلى رفض قطع العلاقات الدبلوماسية مع دولة الاحتلال، واستمرار تصدير البضائع من تركيا، ومرور سفن الوقود عبر المياه التركية إلى دولة الاحتلال.

بعد مرور أسابيع على بدء العدوان على قطاع غزة، وتحديدًا بعد بدء الحرب البرية، تطورت التصريحات الرسمية التركية كما ذكرنا سابقًا، ونظم حزب العدالة والتنمية الحاكم مظاهرة حاشدة في مدينة إسطنبول في الثامن والعشرين من شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، للتعبير عن التضامن مع غزة، وكان المتحدث الرئيسي فيها هو الرئيس أردوغان نفسه.

كما نظمت منظمات مجتمع مدني مقربة من الحزب الحاكم مظاهرة أخرى مع بداية العام الجديد، وتحدث فيها بلال أردوغان، نجل الرئيس، الذي دعا صراحة إلى مقاطعة الشركات التي تتعاون تجاريًا مع دولة الاحتلال. بالإضافة إلى التغطية الإعلامية المكثفة التي قدمتها وسائل الإعلام المقربة من الحزب الحاكم للعدوان على غزة لفترة طويلة، قبل أن يخفت هذا الحضور تدريجيًا، ليحل محله التركيز على ملفات السياسة الداخلية، وعلى رأسها الانتخابات المحلية.

وفي خضم الحملة الانتخابية، نشرت وسائل إعلام معارضة خبرًا مفاده أن مرشح حزب العدالة والتنمية، مراد كوروم، يتعاون مع شركة إعلامية "مقرها في إسرائيل" للترويج لحملته عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهو الأمر الذي لم ينفه الحزب ووسائل الإعلام المقربة منه بشكل مباشر، بل نشرت بدورها خبرًا يفيد بأن منافسه، أكرم إمام أوغلو، يستعين بشركة إعلامية "لها فرع في إسرائيل".

وفي اليوم التالي، نشرت وسائل إعلام المعارضة خبرًا عن تخلي كوروم عن الشركة "الإسرائيلية"، وحذف الإعلانات التي كانت قد نفذتها لصالحه، وتعاقده مع شركة تركية هذه المرة.

الانعكاسات

تبدو حظوظ حزب العدالة والتنمية في الانتخابات المحلية المقبلة، بما في ذلك انتخابات بلدية إسطنبول الكبرى، أفضل من الانتخابات السابقة، وذلك لعدة أسباب، في مقدمتها تشتت صفوف المعارضة، وتقديم الأحزاب المعارضة لعدة مرشحين في هذه الانتخابات، وعلى رأسها حزب "الجيد" القومي، وحزب "ديمقراطية ومساواة الشعوب" الكردي القومي.

ولعل هذا الأمر يفسر السبب وراء فتور الحملة الانتخابية الحالية مقارنة بالحملات السابقة، من حيث تنظيم المهرجانات الانتخابية، وعقد الاجتماعات المصغرة مع مختلف الشرائح الانتخابية.

وعلى الرغم من ذلك، يخشى الحزب الحاكم أن تأتيه المفاجأة من الأحزاب الصغيرة، وخاصة المحافظة و/أو حديثة التأسيس، وعلى وجه التحديد أحزاب: السعادة والمستقبل والرفاه مجددًا، وبدرجة أقل حزب الديمقراطية والتقدم.

فهذه الأحزاب تحديدًا قريبة من الخط الفكري والأيديولوجي للحزب الحاكم، وقادرة – على الأقل نظريًا – على سحب جزء من رصيده في الانتخابات، خاصة وأن لها مواقف قوية في معارضته في العديد من الملفات، وفي مقدمتها موقفه من الحرب في غزة.

ليس من المتوقع أن يفوز مرشح أحد الأحزاب المذكورة بمنصب رئيس إحدى البلديات الكبيرة في البلاد، إلا أن سحب هذه الأحزاب جزءًا من رصيد مرشحي حزب العدالة والتنمية قد يقلل من فرص فوزهم، خاصة في البلديات التي ستشهد منافسة حادة، ويكون فيها لكل صوت أهمية بالغة.

كما أن حصة هذه الأحزاب في المجالس البلدية قد تكون أكبر من حجم فوزها في انتخابات رئاسة البلديات، وربما أكبر من حجمها الحالي في البرلمان، وذلك لأن تصويت الناخبين قد يختلف بين انتخابات رئاسة البلدية وانتخابات المجلس البلدي، كما ذكرنا سابقًا.

ومن بين المخاوف الأخرى التي تساور الحزب الحاكم، اتجاهات التصويت لدى المواطنين الأتراك من أصول عربية، الذين يعبر الكثير منهم عن استيائه من موقف الحزب من الحرب في غزة، خاصة وأنه لم يتم التواصل معهم بنفس الكثافة التي كانت عليها الحال قبل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة.

ويخشى الحزب الحاكم أن يكون لهؤلاء موقف احتجاجي في صناديق الاقتراع، سواء من خلال المقاطعة أو اختيار مرشح آخر أو التصويت لأحزاب أخرى (الأكثر دعمًا لغزة على سبيل المثال) في انتخابات المجالس البلدية، حتى وإن صوتوا لمرشح الحزب في انتخابات رئاسة البلدية.

كل ذلك يشكل حضورًا غير معتاد لأحد ملفات السياسة الخارجية في الانتخابات المحلية، وهو ما يعكس مدى استثنائية الحرب في غزة والوضع الإنساني الكارثي الذي يشهده القطاع بسبب الاحتلال، وخاصة حالة الحصار والتجويع المفروضة على سكانه، وهو حضور مرشح للتصاعد مع اقتراب موعد الاقتراع في نهاية الشهر الحالي.

فهل تكون غزة صاحبة صوت وتأثير حقيقي في نتائج الانتخابات المحلية المقبلة؟

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة